التدبير الجماعي و إشكالية التدخل التنموي

التدبير الجماعي و إشكالية التدخل التنموي

التدبير الجماعي و إشكالية التدخل التنموي

التدبير الجماعي و إشكالية التدخل التنموي

سياق البحث وأهميته
عرف المغرب خلال سنة 2011 صدور دستور جديد، أتى بمجموعة من المستجدات والتغييرات، مست أسس النظام السياسي والإداري القائم منذ سنوات عديدة. ومن أهم المجالات التي مسها التغيير والتعديل، ذلك المرتبط بالتنظيم الترابي. فبالنظر للأهمية البالغة التي أصبح يحتلها التراب في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فقد بات من الضروري العمل على جعل الهيئات اللامركزية في مستوى هذا الرهان الحيوي في بلد مثل المغرب، لا زال يعاني من اختلالات تنموية على المستويين الكمي والكيفي. وتعتبر
مؤسسة الجماعة، باعتبارها نواة وقاعدة التنظيم الترابي بالمغرب، من أهم عناصر المقاربة الجديدة التي تقوم
على جعل الهيئات الترابية، شريكا أساسيا للساكنة المحلية في تحقيق تطلعاتها التنموية. وتظهر مؤسسة الجماعة في البناء الترابي المغربي، الهيئة اللامركزية الأكثر التصاقا بانشغالات المواطنين، بالنظر لقربها المجالي منهم، وكذا لأهمية التراكمات البشرية والمالية والقانونية التي تحققت في مجال تدبيرها التنموي للتراب، عبر مختلف التجارب الجماعية المتعاقبة منذ سنة 1960 إلى وقتنا الحاضر.
وقد دفعت الرغبة في تطوير الأداء التنموي للتراب، عموما، المشرع إلى إصدار ترسانة قانونية جديدة سنة 2015، عبر إصدار القوانين الترابية، ولاسيما، القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات، الذي يهمنا في هذه الدراسة. هذا الأخير جاء بمجموعة من المقتضيات المحسنة لتسيير المجالس المحلية، ولأجهزتها المساعدة. ومما تميز به القانون المذكور، أنه جاء بتصور جديد لدور الجماعات، يقوم على
اعتماد آليات الحكامة والتقنيات الحديثة في التدبير الترابي، وعلى تظافر جهود الجماعات والفاعلين الخواص على المستوى التنموي. وبالتالي، التأسيس لمساهمتها الفعالة في تنشيط الاقتصاد المحلي، وتوفير الموارد المالية.
كما قام المشرع، في إطاره، وتجسيدا للرغبة الدستورية المعبر عنها في الفصل 139 منه، بوضع آليات النهوض بمشاركة المواطنات والمواطنين في التدبير الترابي. ذلك، أن نجاح اللامركزية التنموية، وفق التوجه الترابي الجديد، أصبح يقوم على إنجاز السياسات التنموية المحلية، وفق مقاربة تأخذ بعين الاعتبار إرادة الساكنة في صياغة البرامج والمشاريع التنموية، وملاءمتها مع الحاجيات الخاصة بهم.

إنها إذن، مرحلة جديدة، تروم القطيعة مع المرحلة السابقة، وتدشن لميلاد جماعات مواطنة، تتفاعل
بشكل إيجابي مع التحديات التنموية الضاغطة، عبر الارتقاء بالتدبير الترابي من ممارسة بيروقراطية، إلى تدبير
يستحضر البعد المقاولاتي في إدارة الشؤون التنموية.
ومن هنا، تبرز لنا أهمية البحث في مجال التدبير الترابي للتنمية في السياق الوطني، الذي أنتجه دستور سنة 2011 والقوانين الترابية الصادرة سنة 2015، والذي حاول التأسيس لنفس جديد، أكثر عمقا، على الأقل على مستوى الخطاب السياسي والنصوص القانونية، لدور الجماعات الترابية في تحقيق تطلعات الساكنة المعبر عنها لسنوات عديدة على جميع المستويات التنموية والسياسية. فقد بدا الأمر، وكأنه إعادة توزيع جديد للسلطة بين الدولة والتراب، وبين المركز والساكنة المحلية، عبر ممثليها في المجالس المنتخبة.
فقد تم توسيع الصلاحيات التنموية للتراب، ومنحه استقلالية أكبر في التدبير. فلقد ترسخ الاعتقاد بكون فشل السياسات العمومية للتنمية، يعود، بالأساس، إلى المقاربة المركزية التي تم اعتمادها لمدة طويلة بالمغرب،سواء على مستوى الاستثمار، أو التخطيط، أو إعداد التراب. كما برزت فعالية الفكرة التي تقول بأن برامج التنمية، ستتوفر على فرص نجاح أكثر، إذا ما تولاها فاعلون محليون، قريبون من الساكنة انشغالاتها وهمومهاالتنموية.
كما يكتسي موضوع البحث أهمية علمية موازية، وإن كانت ثانوية، إلا أنها تبدو لنا ذات أهميةمعتبرة. ويتعلق الأمر بمساهمة هذه الدراسة في ترسيخ مفهوم “القانون الإداري للتنمية”، الذي يعتبر من أهم تعبيرات انفتاح القانون العام على المجال سوسيو-الاقتصادي، والتي حاولت التطورات والتعديلات التي أتت بها الأنظمة الترابية المتعاقبة ببلادنا، ترجمته على مستوى النصوص القانونية.
إشكالية البحث
يعرف القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات، مؤسسة الجماعة بالمغرب على أنها؛
“جماعة ترابية، خاضعة للقانون العام، تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال الاداري والمالي”. وهي
تشكل أحد مستويات التنظيم الترابي للمملكة، المتكون كذلك من الجهات والعمالات والأقاليم. و يلاحظ
من خلال الصلاحيات الممنوحة للجماعات، في إطار النظام القانوني المغربي، أنها متعددة ومتشعبة، بحيث تجعل مجال تدخلها شاملا لجميع جوانب الحياة العامة للساكنة المحلية. ويعتبر الجهازان التنفيذي والتداولي بهذه الأخيرة، السلطتان الساهرتان على تفعيل دور المؤسسة الجماعية على مستوى الاستجابة لمقتضيات تسيير التراب المحلي، وتدبير شؤونه. وذلك، بالنظر لحجم وحيوية الصلاحيات الممنوحة لهما بمقتضى النصوص القانونية. غير أن ما يهمنا في هذا الصدد، هي الجوانب المرتبطة بالتنمية، والتي أضحت خلال
السنوات الأخيرة، أساس التدخل الترابي للجماعات.
فبالموازاة مع تعميق الطبيعة اللامركزية للهيئات الترابية المذكورة، تم التأسيس لجعل الجماعة بالمغرب مؤسسة للتنمية الترابية، عبر توفير مجموعة من الشروط القانونية والموضوعية، التي تساعد على قيامها بالأدوار التنموية المأمولة. فلقد راهنت الدولة على الجماعات، في تدعيم الدور التنموي للسلطات العمومية المركزية، حيث قام المشرع بمدها بوسائل مالية مهمة، وبصلاحيات واسعة في مختلف مجالات التنمية الترابية،لاسيما، على مستوى إقامة المشاريع والبرامج الإنمائية، باعتبارها حافزا أساسيا لتحقيق التنمية الشاملة،
والحد من الاختلالات القائمة بين مختلف المجالات الترابية. وإذا كانت مؤسسة الجماعة بالمغرب، قد استطاعت أن تراكم تجربة كبيرة على مستوى التدبير اللاوكزي للتنمية، إلا أن ذلك، لم يواكبه تطور وفعالية على مستوى “فعلية” الصلاحيات التنموية. فقد ظلت العديد من الجماعات، لا تمارس مجموعة من تلك الصلاحيات على مستوى الواقع.
إن عدم رقي حجم وطبيعة التدخل التنموي للجماعات، إلى مستوى الرهان الموضوع عليها في تدعيم دور الدولة، ومواجهة متطلبات التنمية الترابية، يعود، بالأساس، إلى اصطدامها بعدة إكراهات،تقف عائقا أمام أدائها لأدوارها التنموية. فالموارد البشرية، ظلت، في الغالب، غير كفأة، بسبب محدودية تكوينها، وضعف تأطيرها. كما أن الوسائل المالية غير كافية، إما بسبب غياب فائض موازني محلي، نتيجةضعف الموارد وعدم التحكم فيها، أو لصعوبة الحصول على بدائل تمويلية فعالة.غير أن ضعف الموارد والوسائل، لا يشكل لوحده عائقا أمام الدور التنموي الذي ينبغي للجماعات القيام به، وإنما كذلك طريقة وأساليب استخدام الموارد المتوفرة، واستثمارها في مشاريع وبرامج إنمائية، تمكن من الرفع من المستوى الاقتصادي والاجتماعي المحلي. فلقد أبانت الممارسة عن عدم تفعيل هذه الأساليب بالشكل الضروري، لاسيما، في ما يتعلق بآليات الشراكة والتعاون، والتخطيط الاستراتيجي.

إقرأ المزيد  إساءة استعمال السلطة في القرار الإداري

كما تعاني الجماعات بالمغرب من إكراهات أخرى أكثر عمقا وهي المرتبطة بطبيعة ومضمون النهج اللامركزي الذي اعتمده المغرب منذ السنوات الأولى للاستقلال، وقام بتعميقه سنوات 1976 ,2002 ,2009. فلطالما ظلت السلطة لأكزية، متوجسة من تقاسم سلطاتها وامتيازاتها مع الهيئات اللامركزية، لأسباب مرتبطة، بالأساس، بالخوف من تأكل أسس مشروعيتها السياسية، فهي من جهة، قامت بمنح الجماعات الترابية سلطات وصلاحيات تسمح لها بوضع سياسات محلية، وبرامج إنمائية، في حين قامت من جهة ثانية بوضع عدة كوابح لضمان مراقبتها المركزية، واسترجاع تلك الصلاحيات والسلطات كلما بدا لها ذلك ضروريا “.

إن توجس الدولة بالمغرب من خلق مراكز جديدة للسلطة على المستوى الترابي، يجد تفسيره في الخوف من حدوث تغييرات عميقة على مستوى توازن السلط بين المركز والمحيط نتيجة النفوذ الاقتصادي الذي قد تحوزه بعض المجالات الترابية، والذي أصبح يخلق مشاكل سياسية عميقة في العديد. من البلدان المجاورة، مثل إسبانيا وإيطاليا. وتجدر الإشارة إلى أن تزايد الطلب التنموي على الجماعات لا يواجه، فقط، إكراهات التدخل المركزي، وإنما، وأساسا، تدخل باقي مستويات الهيئات الترابية، وخصوصا، مؤسسة الجهة، التي أضحت إطارا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في المغرب، ولاسيما في ظل دستور 2011، الذي منحها زخما كبيرا بحديثه عن مفهوم الجهوية المتقدمة. غير أنه على الرغم من الأولوية التي منحها المشرع والدولة للمؤسسة المذكورة على مستوى الصلاحيات والامكانيات، والتي حولتها سموا قانونيا وعمليا على باقي أصناف الهيئات الترابية 7، إلا أن الجماعات، مع كل ذلك، تظل، بسبب مفهوم “تنمية القرب”، الذي تتحمل مسؤولية تجسيده على المستوى المحلي، رقما مهما في معادلة التنمية الترابية بالمغرب. غير أن قدرة الجماعات على رفع هذا التحدي، يبقى رهينا بتوفرها على الوسائل اللازمة فلابد من توفرها على موارد مالية كافية، وكفاءات بشرية فعالة، إلى جانب تمكينها من آليات قانونية مرنة، تتلاءم مع طبيعة التحديات التنموية المطروحة على الصعيد الترابي.

إقرأ المزيد  طرق اكتساب الملكية في التشريع الجزائري (الحيازة وتقادم المكاسب)

إن ضبط مسار جل الإشكالات السابقة الذكر، والتي يواجهها تدبير الجماعات للتنمية، وحيثيات تطورها وتعقدها على مستوى القانون والممارسة يطرح سؤالا مركزيا على الباحث، هو؛ ما مدى “فعلية” الصلاحيات التنموية التي منحها المشرع للجماعات في ظل كل تلك الاعتبارات؟ إن الجواب عن هذا التساؤل، الذي يشكل إشكاليتنا البحثية والخيط الناظم لمختلف مراحل التحليل، يتطلب الوقوف عند طبيعة آليات التنمية التي تتوفر عليها الجماعات في النظام القانوني المغربي، وعلى الإكراهات التي تواجه مسألة تجسيدها على الصعيد العملي، وعلى شروط تأهيل دورها التنموي على المستوى الترابي. وذلك على ضوء الإصلاح التشريعي التي تم سنة 2015 ، بصدور القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات والذي جاء بمجموعة من المقتضيات المغيرة لأسس التدبير الترابي القائم من قبل.

إقرأ المزيد  الأمن القانوني للملزم بأداء الضريبة

رابط التحميل بصيغة pdf أسفله:

إقرأ أيضا: صناعة القرار السياسي بالمغرب

اجراءات التبليغ والتنفيذ في العمل القضائي (دراسة مقارنة)pdf

الالتقائية في الحكامة المحلية الجديدة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية نموذجا

الضريبة على القيمة المضافة وفق اخر تعديلات المدونة العامة للضرائب

التدبير العمومي الإدارة المغربية نموذجا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

المرجوا إلغاء مانع الإعلانات لتتمكن من مشاهدة المحتوى